يقول الله تعالى في كتابه المجيد: “وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ {13}” [سورة الرعد] …
أما البرق والسحاب, فقد تحدثنا عنهما في لقاءين سابقين مع آيتين أخريين, ولذلك سنركز هنا على “الرعد”, و”الصواعق” في هذه الآية القرآنية الكريمة …
وقد يكون من المفيد أن نلفت الأنظار إلى مناسبة ورود هذه الإشارات العلمية البليغة, ضمن مشاهد كونية عديدة زخرت بها سورة الرعد التي ابتدأت بقول الله تعالى: “المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ{1}”، وهى الآية التي تلخص قضية السورة كلها, وهى قضية الوحي بالقرآن الكريم, من خلال استعراض العديد من آيات القدرة الإلهية في أرجاء الكون, وهى آيات دالة على قدر الله الخالق, وناطقة بأن من مقتضيات هذه القدرة أن يُنزل الله الوحي لتبصير الناس برسالتهم في الحياة الدنيا, وأن الدنيا دار ابتلاء واختبار, وهى مسخرة للإنسان, ثم يرحل ليحاسبه الله على ما فعل فيها … وهكذا سُميت السورة “سورة الرعد”, لورود قول الله تعالى فيها: “ويسبح الرعد بحمده”.
الرعد :
تحدثنا عن السُحب في تدبّرنا العلمي للآية (43) في سورة النور, وخاصة السحاب الركامي, وكيف يتكون, وكيف تتشكل فيه حباّت البَرَد وبلورات الثلج, وكيف يهبط البَرَد ويصعد في السحابة, وكيف تتولد منه شرارة كهربية تومض وميضا شديدا هو “البرق”… ونضيف هنا أن البرق بدرجة حرارته الهائلة يسخّن الكتل الهوائية التي ينتشر فيها, فتتمدد, فينتج عن هذا التمدد حدوث سلسلة من موجات التضاغط والتخلخل, ينتج عنها قرقعة أو فرقعة أو جلجلة شديدة, تتردد فيما بين السُحب الركامية وقواعدها في الغلاف الجوي, وتتردد فيما بين هذه السحب وبين طبقات الغلاف الجوي، أو المرتفعات الموجودة فوق سطح الأرض, وهذه الجلجلة المدوية هى “الرعد”…
وحين يظهر وميض البرق يتبعه “تصفيق” فجائي هو القعقعة الرعدية, وهذا يعني أن العاصفة الرعدية آتية حالا فوق رؤوس الناس. ولا يمكن رؤية البرق وسماع الرعد في آن واحد, لأن البرق يتحرك بسرعة الضوء, وأما الرعد فيسري بسرعة الصوت التي تقل كثيرا عن سرعة الضوء (بمليون مرة تقريبا), ولذلك يسمع الناس صوت الرعد بعد رؤية البرق… ويمكن للعلماء الآن أن يحسبوا الفروق الزمنية بين لحظة رؤية البرق ولحظة سماع الرعد, ليحددوا قيمة ارتفاع السحابة فوق سطح البحر.
الصواعق: أشرنا في بيان الإشارة العلمية الواردة في آية قرآنية آخري أن الصاعقة هى الأضرار والأخطار الناجمة عن البرق, وليست البرق في حدّ ذاته, بمعنى الآثار التدميرية لصدمة البرق, وهى القوة المخرّبة التي تهلك الحرث والنسل, ولذلك يحاول الناس أن يتحاشوا أضرارها بنصب “مانعات الصواعق” على رؤوس المباني والمرتفعات فوق سطح الأرض, وهى بالطبع لا تمنع حدوث البرق, وإنما تحرف مساره, فيتشتت ويضعف فتقل أخطاره التدميرية .
الصيحـــة:
يرتبط البرق والرعد, معا, في تشكيل “الصيحـــة” التي ورد ذكرها في آيات قرآنية, مثل قول الله تعالى: “وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ{94}” [سورة هود], وهى بذلك عقاب يسوقه الله تعالى على الظالمين… وقد تكون الصيحة على أشكال آخرى غير هذا, كصاعقة منقضة أو ريح عاصف أو رعد قاصف, أو صوت عنيف مصحوب بحدوث براكين وزلازل, أو صوت نيزك متحطم أو مذنب يقتحم الغلاف الجوى,…إلخ، مما لا يعلمه تحديدا إلاّ الله سبحانه وتعالى…
تسبيح الرعد: يتبقى معنا لمحة من اللمحات العلمية الإيمانية في الآية محلّ التدبّر الآن, وهى في قول الله تعالى: “… وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ… “, فهل يسبّح الرعد, وكيف يسبّح, وبأية صيغة يسبّح؟؟؟ … ليس لدينا جواب على كثير من هذه الأسئلة الآن, ولكن المؤكد لدينا هو أن كل مخلوق خلقه الله تعالى يسبّح بحمده, ولكن لا نفقه تسبيحه… جميع المخلوقات, الجامدة والحية… كل الموجودات التي أوجدها الموجد جل جلاله, وكافة المخلوقات التي خلقها الخالق, يذعن له بالطاعة المطلقة والسجود التام والتسبيح المطلق, ماعدا الإنسان, الذي خيّره الله بين الطاعة والعصيان, وترك له الحرية في اختيار ما ينفعه في الدنيا والآخرة, فالكل (مُصيّر) ماعدا الإنسان فهو (مُخيّر)…
نعم, كل الظواهر الكونية والطبيعية من صنع الصانع الأعلى، وخلق الخالق الأعظم, وهو الله , ولذلك فلا يعلم تسبيحها وتحميدها وشكرها وصلاتها على الحقيقة إلاّ خالقها وصانعها سبحانه وتعالى… وهو سبحانه جعل هذه الظواهر الطبيعية دلائل على قدرته إذا تأمل الإنسان فيها وتفكر في جوانبها المختلفة, كما أنه سبحانه جعلها عقابا وأشكال عذاب يصبّها على من يشاء من الكافرين والظالمين والطاغيين من البشر… إن تسبيح الموجودات والكائنات غير المكلفة لخالقها سبحانه وتعالى من الغيب المحجوب عن الإنسان, لضعف إدراكه وقصور إحساسه, وكذلك رحمة به, واستكمالا لمتطلبات اختباره في الحياة الدنيا…
وتختم الآية الكريمة بقول الله تعالى: “وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ”, وفيه عجب من أمر هؤلاء الصُم البُكم العُمى, الذين يرون البرق والرعد والصواعق والظاهرات (الظواهر) الطبيعية المختلفة, ولا يتدبرون أمورها, ولا يصلون إلى النتيجة الحتمية, وهى أن كل هذه وتلك من صنع خالق مدبّر… فبالرغم من كل هذه المشاهد الزاخرة في الكون لا يزال المكابرين المعاندين يجادلون في الله, يجادلون في وجوده المحض وفي قدرته المطلقة، ولا يزالوا ينسبون الخلق والتدبير إلى شركاء لله- حاشاه سبحانه- وينفون وحدانية… نعوذ بالله منهم ومن أشياعهم في كل زمان ومكان…!!
إعصار فيه نار:
من الجدير بالذكر القول بأن حدوث البرق يصحبه حدوث عاصفة تورنادو رعدية (Tornadic thunder storms)، وهى من الأعاصير الدوارة (Cyclones)، وتبدو على هيئة إعصار فيه نار. وقد توصّل العلماء مؤخرا إلى معرفة الدور الأساسي للبَرَد في حدوثها، والذي يترتب على دوره حدوث البرق ذاته، ولعل هذا يفيدنا في فهم أكثر عمقا للآية القرآنية الكريمة التي يقول الله تعالى فيها: ” أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ{266}”[سورة البقرة]…
ولمزيد من التوضيح للإعصار الذي فيه نار حارقة، نقول: إن العاصفة الرعدية تتبع البرق، وقد يصاحبها هطول المطر، والمطر في حدّ ذاته خير للناس، ومن حقهم أن يطمعوا في هذا الخير الذي يسوقه الله تعالى، لأنه يسقي الحرث والنسل، ولكن الذي يخافه الناس في هذه العواصف هو الإعصار المدمر الذي يتكون أحيانا منها، حين يتدلى من السحابة الركامية “قمع الإعصار” الذي يشبه خرطوم الفيل، ويصل إلى سطح الأرض، وقد يحدث في جداره تفريغ كهربائي شديد، فيكون إعصارا ناريا حارقا مدمرا، بل يصبح كالمكنسة الكهربائية يكتسح في طريقه كل شيء، حيث تدور الرياح من حوله بسرعة تصل إلى 800 كيلومتر/ ساعة، ويدوي صوت الرعد الذي يصمّ آذان البشر… ولقمع الإعصار قوة شفط خطيرة تسببها تيارات الحمل الصاعدة التي تدفع بالهواء إلى أعلى قلب (أو عين) الإعصار بسرعة تصل إلى 300 كيلومتر/ ساعة، فتشفط كل ما يصادفها من الأجسام، حتى الثقيل منها كالسيارات والماشية والبشر، وتلقي بها إلى مسافات بعيدة…. كما أن الأشياء التي شفطها الإعصار تنفجر نتيجة لوجود فروق فيما بين الضغط بخارج والضغط بداخل القمع، فتحدث فرقعة مدوية لهذا الانفجار، ويحترق ما بداخل قمع الإعصار… !!! ولعل في هذا ما يسهل فهم (الخوف والطمع) الواردين في الآية (12) من سورة الرعد: “هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ{12}” …. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم…
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
لا تشاهد وترحل اترك بصمتك بترك تعليق حول الموضوع ❤
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.